هل رصد أحد في الدولة (أقصد جهازًا محترمًا أو مسئولاً عاقلاً) حالات العنف الجماعي المتفجر في أكثر من منطقة داخل مصر في الأيام الأخيرة؟.. ظني أنه لا أحد مشغولاً بما يجري علي أرض الواقع بل هم مهمومون جدًا بتفسيرها علي هوي أجهزة الأمن وأمن أمانة السياسات، التفسير الحكومي الجاهز والقديم والمستهلك أن هناك قلة منحرفة تستغل مشاعر الناس وغضبهم وتقودهم للعنف، سأحاول أن أوافق علي مسخرة أسطورة القلة المنحرفة التي تروجها الحكومة منذ زمن ونتوقف عند السؤال الأهم: ولماذا تنجح القلة المنحرفة فيما تفشل فيه القلة المنظمة العاقلة (التي هي هنا رجال الدولة) في إثارة الناس وتوجيههم للعنف؟!..
دعك من هذا السؤال وتعال نتأمل حدثين آخرين تحكم فبهما العدوان والعنف، في الصعيد بسوهاج والمنيا، لا يخدعك موقع الأحداث وتذهب إلي التفسير المريح أن الصعيدي أول ما يفكر فيه هو متي يضرب؟ قبل أن يسأل لماذا يضرب؟.. الحقيقة أن هناك أحداثًا في الصعيد كما في بحري والإسكندرية والقاهرة تكشف عن عنف كامن داخل المصريين يخرج فجأة غاضبًا ومتفجرًا، فليست طبيعة المكان هي التي نفهم منها سبب اندلاع العنف، بل هو طبع المواطنين الآن.. أحداث العنف لها دوائر ثلاث، الأولي هي تصرفات الأمن العدوانية والباطشة والغبية في مواجهة الناس فيأتي الرد الجماعي الفوري غير المنظم عنيفًا ضد قوات الأمن ومساويًا له في رد الفعل العدواني والباطش والغبي، وهذا دليل علي أن العقلية الأمنية في مصر في حاجة إلي إعادة تأهيل نفسي ووجداني، فقد بانت الشرطة في الفترة الأخيرة كأداة قمع وقهر علي كل المستويات ولم يعد الأمر مقتصرًا علي الجانب السياسي في التصدي لقوي المعارضة والإخوان، بل تمدد إلي أقسام البوليس والأمن المركزي والمباحث الجنائية، ولم يعد رجل الشرطة مرادفًا لإعادة الطمأنينة والأمان في قلوب الناس بل صار مصدرًا للبهدلة والنكد والتوتر وإذلال المواطن والعدل بالمزاج وحسب كارت التوصية، وهو أمر في حاجة إلي تنبه وطني لا أتوقعه لأن التحذير يأتي منا ونحن محل اتهام بكراهية النظام، ومن ثم لا يعيرنا أحد اهتماما.. وصحيح أننا نعارض النظام لكننا لا نكره أحدًا ومن المؤكد أننا نحب هذا البلد ونخاف عليه..
الدائرة الثانية هي الصراع علي ملكية، ملكية قطعة أرض، بيت، عدد من المحال تم إزالتها أو سيطرة مالك جديد عليها، أو بيعها بلا صرف تعويضات لمستأجريها، المهم أنها صراع علي ما يمكن اعتباره ثروة بعض الناس أو أكل عيشهم، وكثير من هذه الحوادث تجري بعنف الدفاع عن الرزق وقوت العيال أو بعدوان شهوة الربح وتوحش المكسب المنتظر، وهي إن عبرت عن شيء فهي تعبر عن غياب القانون أو عدم احترام الجميع له، لأن أسوأ ما في القانون حين يتحول إلي أداة يستغلها أصحاب النفوذ والسطوة في مواجهة الغلابة أو قليلي الحيلة..
الدائرة الثالثة للعنف الذي يجري في مصر هي الأخطر فهي دائرة الفتنة الطائفية والتي أتصور أنها قد تفجر البلد كله إن سكتنا عنها، فليست المشكلة في الأحداث الكبيرة التي تصحبها أعمال عنف وتبادل عدوان، بل الكارثة في تلك الأحداث الصغيرة التي باتت كأنها يومية في مناطق كثيرة من الوطن مثل الخناق حول سور كنيسة، أو بناء كنيسة جنب جامع، أو هروب شابة مسيحية مع ولد مسلم، أو حب شاب مسيحي لبنت مسلمة، أو أن تصدم سيارة مسيحي مسلما أو العكس، أو مسرحية داخل كنيسة أو خطبة عن المسيحية في جامع مجهول.. كل هذه الوقائع باتت تفجر عنفًا متناميًا ويوميًا ومتسعًا.. وطاخ طيخ وعينك ما تشوف إلا الدم!