فقة السيرة النبوية للبوطى

رحلة الرسول صلى الله عليه وسلم الى الطائف

عندما اشتد إيذاء قريش للنبى صلى الله عليه وسلم خرج الى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف ويرجوا ان يقبلوا منه ما جاءهم به من عند الله عزوجل فلما انتهى عليه الصلاة والسلام الى سادات الطائف جلس إليهم ودعاهم الى الله فردوا عليه ردا منكرا وفاجئوه بما لم يكن يتوقع من الغلظة وسمج القول . فقام من عندهم يرجوهم ان يكتموا خبر مقدمه اليهم عن قريش فلم يجيبوه الى ذلك ثم اغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويرمونه بالحجارة حتى ان قدمى رسول الله صلى الله عليه وسلم لتدميان وشج رأس زيد بن حارثة وهو يقيه بنفسه حتى وصل رسول الله الى بستان لعتبة بن ربيعة وقد انهكه التعب والجراح فجلس الى ظل شجرة عنب وابنا ربيعة ينظران اليه وقد رفع صلى الله عليه وسلم رأسه يدعوا
( اللهم إليك اشكوا ضعف قوتى وقلة حيلتى وهوانى على الناس ياأرحم الرحمين انت رب المستضعفين وانت ربى الى من تكلنى ؟ الى بعيد يتجهمنى ام الى عدو ملكته امرى ؟ إن لم يكن بك عليا غضب فلا ابالى ولكن عافيتك اوسع لى اعوذ بنور وجهك الذى اشرقت له الظلمات وصلح عليه امر الدنيا والاخرة من ان تنزل بى غضبك او يحل عليا سخطك لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بك )

فتحركت الشفقة فى قلبى ابنى ربيعة فدعوا غلاما نصرانيا لهما يدعى عداس وارسلا معه قطفا من العنب اليه صلى الله عليه وسلم فلما وضع عداس العنب بين يدى رسول الله وقال له كل مد الرسول عليه الصلاة والسلام يده قائلا : بسم الله ثم اكل فقال عداس متعجبا : والله إن هذا الكلام لايقوله اهل هذه البلاد فقال له الرسول : من اى البلاد انت وما دينك قال عداس : انا نصرانى من اهل نينوى فقال الرسول صلى الله عليه وسلم : من قرية الرجل الصالح يونس بن متى ؟ فقال له عداس : وما يدريك بيونس بن متى ؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام : ذلك اخى كان نبيا وانا نبى فأكب عداس على رسول الله يقبل رأسه ويديه وقدميه
وفى طريق عودته صلى الله عليه وسلم الى مكة عائدا من الطائف قام بجوار نخلة فى جوف الليل يصلى فمر به نفر من الجن فاستمعوا له فلما فرغ من صلاته ولوا الى قومهم منذرين قد امنوا واجابوا ما سمعوا

وقيل ان الله بعث اليه جبريل ومعه ملك الجبال فسلم عليه وقال له ان الله سمع مقالة اهلك لك فإن شئت اطبقت عليهم الاخشبين ( جبلين فى مكة ) فقال الرسول صلى الله عليه وسلم ( عسى الله ان يخرج من اصلابهم من يوحد الله ) فخرج عكرمة من ابى جهل – وخرج خالد من الوليد بن المغيرة
فلما وصل عليه الصلاة والسلام الى مكة واراد دخولها هو وزيد بن حارثة خشى من بطش قريش فأرسل الى مطعم بن عدى يخبره انه يريد ان يدخل مكه فى جواره فاستجاب مطعم لذلك وعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم الى مكة

الدروس المستفادة من رحلة الطائف

1

1- إن ما يلاقيه الرسول صلى الله عليه وسلم من مختلف ألوان المحن من جملة أعماله التبليغيه للناس فكما جاء يبلغهم العقيدة الصحيحة وأحكام العبادات والأخلاق والمعاملات جاء ايضا ليبلغهم ما كلفهم الله به من واجب الصبر وكيفية تطبيقه فكما قال للمسلمين ( صلوا كما رأيتموني أصلى ) فكأن لسان حاله يقول ( أصبروا كما رأيتموني أصبر )

2- فى كل مشهد من مشاهد الإيذاء الذى تعرض له رسول الله نجد ما يعتبر ردا إلهيا على ذلك الإيذاء يكون فيه مواساة للنبى صلى الله عليه وسلم وفى حادثة الطائف نجد الرد الإلهى فى إيمان عداس وتقبيله يد وقدم رسول الله – استماع الجن له وإيمانهم به – إرسال الله ملك الجبال له

3- وفاء زيد بن حارثة وشجاعته فى الدفاع عن رسول الله ووقايته بنفسه حتى انه شج رأسه عدة شجاج وهذا ينبغى ان يكون حال المسلم بالنسبة لقائد الدعوة من حمايته له بنفسه ودفاعه عنه وإن أقتضى ذلك التضحية بحياته

4- نستخلص من واقعة استماع الجن ان المسلم يؤمن بوجود الجن وبأنهم كائنات حية كلفها الله عزوجل بعبادته كما كلفنا بذلك ولكننا لا نشعر بهم لأن الله عزوجل جعل وجودهم غير خاضع للطاقة البصرية التى تبثها أعيننا . إنكار وجود الجن يعد إنكار وتكذيب لخبر صادق متواتر ورد إلينا عن الله عزوجل وعن رسوله

5- كل ما رآه الرسول صلى الله عليه وسلم وعاناه فى الطائف بعد القسوة والعذاب اللذين رآهما فى مكة لم يكن له تأثير على ثقته بالله تعالى او على قوة العزيمة الايجابيه فى نفسه ويتضح هذا عندما سأله زيد بن حارثة ( كيف نعود يا رسول الله الى مكة) فأجابه بثقة واطمئنان ( يا زيد إن الله جاعل لما ترى فرجا ومخرجا وإن الله ناصر دينه ومظهر نبيه )

الرد على من قال أن دعاء النبي عليه الصلاة والسلام يوم الطائف يدل على الضجر والملل :

ان الشكوى الى الله تعبد والضراعة والتذلل على بابه تقرب وطاعة وان للمحن والمصائب حكم لا يعلمها الا الله وقد كان فى وسعه صلى الله عليه وسلم لو شاء ان ينتقم من السفهاء الذين آذوه ومن الزعماء الذين اغروا به اولئك السفهاء لكنه عليه الصلاة والسلام لم يشاء ذلك وكان هذا عندما وارسل الله عزوجل له سيدنا جبريل وهو بقرن الثعالب عائدا من الطائف فقال له سيدنا جبريل ( إن الله عزوجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا به عليك وقد بعث إليك مالك الجبال لتأمره بما تشاء . فسلم ملك الجبال على الرسول صلى الله عليه وسلم ثم قال : يا محمد قد بعثنى الله إليك لتأمرنى بما تشاء فإن شئت ان اطبق عليهم الاخشبين . فقال رسول الله : بل أرجوا أن يخرج الله من اصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا

إن رسول الله رغم كل شئ بشر يتألم للضر ويستريح للنعيم ولكنه يفضل الضر مهما كانت آلامه على النعيم مهما كانت لذائذه إرضاء لوجه ربه وأداء لحق العبودية عليه

الإسراء المعراج

بعد واقعة الطائف حدثت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم تدل مدى محبة الله له وإكراما له . جاء جبريل عليه السلام الى الرسول صلى الله عليه وسلم وهو نائم فى بيت ام هانئ ابنة عمه فأيقظه وقال له قم معى فخرج من البيت فوجد رسول الله دابة لم برى مثيل لها يطلق عليه البراق وهو فوق الحمار ودون البغل يضع حافره عند منتهى طرفه فركب عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وسيدنا جبريل وانطلقا الى بيت المقدس فدخل الرسول صلى الله عليه وسلم الى المسجد الأقصى فوجد بداخله الأنبياء من لدن ادم الى عيسى عليهم السلام فقدمه سيدنا جبريل ليصلى بهم فصلى بهم ركعتين ثم اتاه سيدنا جبريل بإناء خمر وإناء لبن فاختار عليه الصلاة والسلام اللبن فقال له جبريل : اخترت الفطرة . ثم بدأ عروج سيدنا محمد مع سيدنا جبريل ال السموات العلا وعند كل سماء يدق سيدنا جبريل باب السماء فيقول الملك الموكل بها : من فيرد سيدنا جبريل انه ومعه سيدنا محمد فيقال له ابعث فيرد سيدنا جبريل : نعم . وهكذا عند كل سماء وقابل سيدنا محمد فى السماء الاولى ادم عليه السلام وفى الثانية قابل عيسى ويحيى عليهما السلام وهما ابنا خالة وفى السماء الثالثة قابل يوسف عليه السلام وفى السماء الرابعة قابل إدريس عليه السلام وفى السماء الخامسة قابل هارون عليه السلام وفى السماء السادسة قابل موسى عليه السلام وفى السماء السابعة قابل ابو الأنبياء إبراهيم عليه السلام ثم ارتقى الى سدرة المنتهى وفيه وجد اربعة انهار نهران باطنان ونهران ظاهران اما الباطنان فنهران فى الجنة واما الظاهران فالنيل والفرات

وفى تلك الرحلة فرضت الصلاة لكنها اول ما فرضت فرضت خمسين صلاة وعند رجوعه صلى الله عليه وسلم من السدرة والنزول مر على سيدنا موسى فأخبره امر الصلاة فقال له موسى عليه السلام : لقد لقيت من بنى اسرائيل ما لقيت وأمتك لن تطيق هذا فارجع الى ربك فسأله التخفيف . فرجع الرسول عليه الصلاة والسلام وظل يتردد بين سدرة المنتهى وسيدنا موسى حتى خففت الى خمس صلوات فقال له سيدنا موسى ارجع الى ربك فسأله التخفيف فقال عليه الصلاة والسلام : سألت ربى حتى استحييت ولكنى أرضى واسلم . ومن رحمة الله بعباده إنها خمسه فى الأداء خمسين فى الثواب

وفى صبيحة اليوم التالى حدث الرسول صلى الله عليه وسلم الناس بما رأى وشاهد فظل المشركون يخبرون بعضهم ويضحكون منه وتحداه البعض فى ان يصف بيت المقدس لعلمهم انه لم يزره من قبل فجلى الله صورته بين عينى رسول الله واخذ يصفه وصفا دقيقا

اما ابوجهل فذهب الى ابو بكر يخبره بما قاله رسول الله رجاء ان يكذبه ابوبكر ويتراجع عن ايمانه ولكن هيهات فعندما اخبره ابوجهل بالإسراء وأخفى عنه امر المعراج ليصدمه بالتدريج قال له ابوبكر : إن كان قال ذلك فلقد صدق انى لأصدقه على ابعد من ذلك أصدقه على الخبر يأتيه من السماء ولئن قال انه اعرج به للسموات لصدقته . ومن هنا اطلق على ابو بكر اسم الصديق

ذكرت حادثة الإسراء والمعراج فى سورة الإسراء فى الحديث النبوى والذى ذكره البخارى فى باب المعراج الحديث رقم 3887

العبر والدلالات فى معجزة الاسراء والمعراج

1

1- كثير من المستشرقون يحاولون تحويل حياته صلى الله عليه وسلم الى حياة بشرية عادية من خلال حذف الخوارق والمعجزات من حياته صلى الله عليه وسلم وراحوا يروجون له صفات العبقرية والقيادة فى عبارات من الإعجاب والإطراء كى يرسموا صورة جديدة للنبى صلى الله عليه وسلم فى اذهان المسلمين مع مرور الزمن صورة ( محمد العبقرى او محمد القائد او محمد البطل ) لكنها لاينبغى ان تكون بأى حال من الاحوال صورة ( محمد النبى والرسول ) ومن اجل هذا الهدف نقوا السيرة من اى شئ بها يشير الى الوحى او المعجزات وهدم معنى النبوة ونسخها من حياته مما سيؤدى بالبداهه الى انكار الدين نفسه ومن طرقهم الى ذلك انكار الاحاديث النبوية والتشكيك فيها لانها تحتوى على الكثير من الاحاديث التى تتحدث عن معجزاته صلى الله عليه وسلم كحديث ( تدفق نبع الماء من بين أصابعه – حديث انشقاق القمر – حديث الإسراء والمعراج ) وسبب هذا التجاهل لتلك الأحاديث هو التهرب من الإشكال العويص الذى سيواجهونه من تناقض تلك الأحاديث والفكرة التى تطوف برؤوسهم

** ونرد عليهم بان الانسان نسى من طول الإلف واستمرار العاده وجه المعجزة وقيمتها فى هذا كله فيحسب جهلا منه وغرورا ان المعجزة هى التى تفاجئ ما ألفه واعتاده فقط ولو نظر اولئك الناكرين للمعجزه والدين الى الكون بحركة كواكبه وقانون الجاذبية والانسان وما يحتويه من مجموعات عصبية ودورة دموية والروح فيه فكل هذا معجزة الانسان نفسه معجزة وهذا يوضح بجلاء ان الإله الذى خلق معجزة هذا الكون كله ليس عسيرا عليه ان يزيد فيه معجزة اخرى او ان يبدل ويغير فى بعض أنظمته التى انشأ العالم عليها . ولو لم يكن هذا العالم موجودا وقيل لواحد ممن ينكرون المعجزات والخوارق سيوجد عالم كذا فإنه سيجيب ان هذا غير متصور ويأتى نفيه لتصور ذلك اشد بكثير من نفيه لتصور معجزة من المعجزات

2- جاءت ضيافة الإسراء والمعراج بعد الوان العذاب التى لاقاها الرسول صلى الله عليه وسلم من قريش وفى رحلته الى الطائف تكريما من الله تعالى له وتجديدا لعزيمته وثباته

3- الاقتران الزمني بين إسرائه عليه الصلاة والسلام الى بيت المقدس وبين العروج به الى السموات السبع دلالة باهرة على ما لهذا البيت من مكانه وقدسية عند الله تعالى وفيه دلالة واضحة على العلاقة الوثيقة بين الانبياء ورابطة الدين الواحد الذى ابتعثهم الله عزوجل به وفيه دلالة على انه ينبغى على المسلمين فى كل عصر ووقت الحفاظ على هذه الأرض المقدسة وحمايتها من مطامع الدخلاء وأعداء الدين

4- اختيار النبى صلى الله عليه وسلم اللبن على الخمر دلالة على ان الاسلام دين الفطرة فليس فى الاسلام شئ يتعارض والطبيعة الأصيلة فى الانسان وهذا من أسرار سعة انتشاره وسرعة تقبل الناس له

5- كان الاسراء والمعراج بالروح والجسد معا والإثبات استعظام مشركى قريش له وتعجبهم وتكذيبهم له فلو كان الامر رؤيا لما ثاروا على هذا الوجه

6- احذروا بالرجوع الى ما يسمى معراج بن عباس فهو كتاب ملفق ملئ بالأكاذيب

لماذا خص موسى عليه السلام دون غيره من الأنبياء فى اكثر آيات القرآن؟

1- التشابه بين قوم موسى ومشركى قريش فى تعنتهم وكفرهم

2- ترغيب لمن لحق بركب موسى عليه السلام ان يلحق بركب النبى صلى الله عليه وسلم

3- اليهود كانوا اقرب اهل كتاب لقريش

4- موسى طلب رؤية الله عزوجل عندما ذهب لميقات ربه لكنه لم يراه وأراد الله ان يستجيب له بأن يجعله يرى نور الله عزوجل فى نور سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم الذى اقتبسه عند رؤيته لنور الله عند سدرة المنتهى

[center]بعض الآيات التى رآها الرسول عليه الصلاة والسلام خلال رحلة الإسراء والمعراج :[/

1center]- رأى قوم تلفحهم النار من اسفلهم وعندما سأل من هؤلاء قيل هؤلاء الزناه

2- رأى قوم يأكلون اللحم النيئ النتن ويتركون اللحم الطاهر فلما سأل قيل له هؤلاء الذين يتركون ما احل الله لهم ويذهبون لما حرم عليهم

3- رأى رجلا نائما وعليه رجل واقف ممسك بحجر كبير يرميه به فيفصل رأس النائم عن جسده ويتدحرج ثم يعود الى مكانه فيعاود الرجل القائم إلقاء الحجر وهكذا وعندما سأل عليه الصلاة والسلام من هذا قيل النائم عن الصلاة

4- شم ريحا جميلا فقال لمن هذه الرائحة الجميلة قيل لماشطة بنت فرعون وأبنائها الذين حرقهم فرعون عندما علم بإيمانهم

عرض الرسول نفسه على القبائل وبدء اسلام الانصار

كان النبى صلى الله عليه وسلم خلال هذه الفترة كلها يعرض نفسه فى موسم الحج على القبائل التى تتوافد الى البيت الحرام يتلو عليهم كتاب الله ويدعوهم الى التوحيد فلا يستجيب له احد . ويرون ان ابو لهب كان يمشى ورائه يقول للقبائل لا تطيعوه فإنه صابئ كاذب فيردون على الرسول اقبح رد ويقولون عمه يقول هذا فهوا ادرى الناس به
وفى العام الحادى عشر من البعثة عرض نفسه على القبائل شأن كل عام وبينما هو عند العقبة لقى قوما من الخزرج أراد الله بهم الخير
فسألهم : من انتم ؟ قالوا : نفر من الخزرج
قال : أمن موالى يهود ؟ قالوا : نعم
قال : أفلا تجلسون أكلمكم ؟ قالوا : بلى

فجلس معهم ودعاهم الى الله عزوجل وعرض عليهم الإسلام وتلا عليهم القرآن . فلما سمعوا منه قالوا لبعضهم ( تعلمون والله إنه النبي الذى توعدكم به اليهود فلا يسبقنكم إليه ) وقد كان اليهود فى يثرب يقولون للاوس والخزرج إن نبيا مبعوث ألان قد طل زمانه سنتبعه ونقتلكم معه قتل عاد وإرم ! فكانت مشيئة الله ان يكون اليهود هم سبب فى إسلام هؤلاء النفر من الخزرج وقالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : ( انا قد تركنا قومنا ولا قوم بينهم من العداوة والشر ما بينهم فعسى ان يجمعهم الله بك فسندعوهم الى امرك ونعرض عليهم ما أجبناك اليه ) ثم انصرفوا ووعدوه المقابلة فى الموسم المقبل

بيعة العقبة الاولى

فى العام الثانى عشر من البعثة اى بعد سنة من مقابلة الرسول عليه الصلاة والسلام لرهط الخزرج وانتشار الإسلام خلال تلك السنة فى المدينة جاء موسم الحج وحضر الأنصار ( اهل المدينة ) اثنا عشر رجلا فلقوا الرسول عليه الصلاة والسلام بالعقبة فبايعوه على (عدم الشرك بالله وعدم السرقة وعدم الزنا ...... الخ من بنود المعاهدة التى بايع عليها النساء( بعد الفتح ) وسميت هذه البيعة ببيعة العقبة الأولى ولم يبايعهم فيها على الحرب والجهاد

**** بنود المعاهدة مذكورة فى أخر سورة الممتحنة

العبر والعظات المستفادة من بيعة العقبة الاولى

1- اقتضت حكمة الله عزوجل ان يكون انصاره الاوائل من غير بيئة الرسول وقومه حتى لا يظن ظان بأن دعوته صلى الله عليه وسلم كانت فى حقيقتها دعوة قومية حاكتها رغبات قومه وظروف بيئته

2- ان الله عزوجل قد مهد حياة المدينة وبيئتها لقبول الدعوة الاسلامية حيث كان فى صدور اهل المدينة تهيؤ نفسى لقبول هذا الدين ونتج عن هذا التهيؤ من وجود اليهود بالمدينة ومخالطتهم اهلها وكلما اختلف العرب واليهود هدد اليهود العرب بأن نبيا قد ان اوان بعثته وانهم سيكونون من اتباعه ويقتلونهم قتل عاد وارم مما جعل لدى اهل المدينة تطلعا الى هذا الدين

3- اسلام الانصار لم يكن مجرد نطق بالشهادتين بل كان الجزم بالقلب والنطق باللسان بهما لذا اراد النبى ان يصبغ سلوكهم بالصبغة الاسلامية عن طريق التمسك بنظمه واخلاقه وعامة مبادئه حيث اخذ عليهم ان لايشركوا بالله شيئا ولا يسرقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا اولادهم ولا يأتون ببهتان يفترونه بين ايديهم وأرجلهم ولا يعصوا الرسول صلى الله عليه وسلم فى اى معروف يأمر به . وهذا يدل على ان الدين دين عمل وليس مجرد نطق باللسان

4- مهمة الدعوة الاسلامية وقفا على الرسل والانبياء وحدهم انما هى جزء لا يتجزأ من حقيقة الاسلام نفسه وبالتالى فكل مسلم مكلف بالقيام بأعبائها اذ حقيقة الدعوة هى الامر بالمعروف والنهى عن المنكر وسنجد هذا جليلا فى موقف مصعب بن عمير حين انطلق الى اهل المدينة بناء على اوامر الرسول صلى الله عليه وسلم ليعلمهم القرأن ويبلغهم احكام الله . ومن المعروف ان مصعب كان انعم غلام بمكة واترفها معيشة وترك كل ذلك فى سبيل الاسلام والدعوة اليه .

بيعة العقبة الثانية

عاد مصعب بن عمير الى مكة فى موسم العام التالى ومعه جمع كبير من مسلمى المدينة خرجوا مستخفيين مع حجاج قومهم المشركين فواعدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فى العقبة ثانى ايام التشريق وكانوا ثلاثة وسبعون رجلا وامرأتان هم (نسيبة بنت كعب – واسماء بنت عمرو بن عدى )

فوافاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس بن عبد المطلب فتكلم القوم وقالوا :خذ لنفسك ولربك ما أحببت . فتكلم الرسول صلى الله عليه وسلم فتلا القرأن ودعا الله ثم قال ( ابايعكم على ان تمنعونى مما تمنعون منه نساءكم وابناءكم ) فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال ( نعم والذى بعثك بالحق نبيا لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا فبايعنا يارسول الله فنحن ابناء الحروب ورثناها كابرا عن كابر )
فاعترض القول والبراء يتكلم ابو الهيثم بن تهيان فقال ( يارسول الله إن بيننا وبين الرجال حبالا وإنا قاطعوها (يعنى اليهود ) فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله ان ترجع الى قومك وتدعنا ؟ ) فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال (بل الدم الدم والهدم الهدم انا منكم وانتم منى احارب من حاربتم واسالم من سالمتم )
وطلب منهم رسول الله ان يخرجوا اثنى عشر نقيبا منهم يكونوا على قومهم فخرج تسعة من الخزرج وثلاثة من الاوس ورجع القوم الى رحالهم .

تتفق البيعة الثانية مع بيعة العقبة الاولى فى الاعلان عن الدخول فى الاسلام وأخذ المواثيق والعهود على السمع والطاعة والاخلاص لدين الله والانصياع لاوامر الله ورسوله

تختلف بيعة العقبة الثانية عن البيعة الاولى فى :
1

1- ان عدد المبايعين من أهل المدينة فى المرة الاولى كان اثنى عشر اما عددهم فى البيعة الثانية فقد كان بضعة وسبعين بينهم امرأتان . ونعلم من هذا انه عندما عاد الاثنى عشر ومعهم مصعب بن عمير لم ينطوى كل على نفسه وينعزل فى بيته بل ليبشر بالاسلام كل من حوله ويتلوا عليهم القرأن ويبين لهم احكامه ومن اجل ذلك انتشر الاسلام تلك السنة فى المدينة انتشارا عظيما حتى لم يبقى دار الا دخلها الاسلام . وتلك هى وظيفة المسلم فى كل عهد وفى كل مكان

2- ان بنود البيعة الاولى خالية من الاشارة الى الجهاد بالقوة لكن فى البيعة الثانية صرحت بضرورة الجهاد والدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والدعوة الى دينه بكل وسيلة ولعل السبب فى ذلك ان ارباب البيعة الاولى انصرفوا وهم على موعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الموسم التالى ومن ذلك فإن البيعة الاولى كانت بيعة مؤقت هاما البيعة الثانية فقد كانت الاساس الذى هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة بناء عليه . ومن هنا نعلم ان مشروعية القتال فى الاسلام لم تكن الا بعد هجرته صلى الله عليه وسلم الى المدينة . واول ايه نزلت فى الجهاد ومشروعيته قوله تعالى ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) ولقد نزلت بعد خروجه صلى الله عليه وسلم من مكة .

اسباب تأخر مشروعية الجهاد بالقوة الى هذه الفترة

1- من المناسب ان يسبق القتال تعريف بالاسلام والدعوة اليه وحل المشكلات التى قد تقف فى سبيل فهمه وهذه هى المراحل الاولى فى الجهاد وكان القيام بتحقيقها فرض كفاية يشترك المسلمون فى المسئوليه عنها
2- اقتضت رحمة الله تعالى بعباده ان لايحملهم واجب القتال الى ان توجد لهم دار اسلام تكون لهم بمثابة معقل يأوون اليه ويلوذون به ولقد كانت المدينة المنورة أول دار فى الاسلام

كلمة عامة عن الجهاد ومشروعيته :

اخطر ركن من اركان الاسلام فى نظر اعدائه يخيفهم ويرعبهم هو الجهاد فهم يدركون ان هذا الركن اذا استيقظ فى نفوس المسلمين واصبح ذا اثر فى حياتهم فلن تقف اى قوة مهما بلغت فى وجه الدافع الاسلامى لذا وجدوا انه يجب القيام بأى عمل بغية ايقاف المد الاسلامى من هذه النقطة ذاتها
معنى الجهاد ..... هو بذل الجهد فى سبيل إعلاء كلمة الله واقامة المجتمع الاسلامى وبذل الجهد بالقتال نوع من انواعه غايته إقامة مجتمع اسلامى صحيح
المراحل التى مر بها ......
- فى صدر الاسلام كان مقتصرا على الدعوة السليمة ومع الصمود فى سبيلها للمحن والشدائد
- مع بداية الهجرة شرع القتال الدفاعى اى رد كل قوة بمثلها
- ثم شرع بعد ذلك قتال كل من وقف عقبة فى طريق اقامة المجتمع الاسلامى وقتال من لم يقبل الاسلام من الملاحدة والوثنيين لعدم انسجام المجتمع الاسلامى الصحيح وما هم عليه من إلحاد او وثنية . اما اهل الكتاب فيكفى خضوعهم للمجتمع الاسلامى وان يدفعوا للدولة ما يسمى الجزية وفى هذه المرحلة استقر حكم الجهاد فى الاسلام وهذا هو واجب المسلمين فى كل عصر إذا توفرت لديهم القوة والعدة اللازمة .

لا يوجد ما يسمى حرب دفاعية وأخرى هجومية حيث ان مشروعية الجهاد ليس الدفاع لذاته ولا الهجوم لذاته وانما منوط لحاجة اقامة المجتمع الاسلامى

المغالطات والتشويهات التى دست على الجهاد

النظرية الاولى ......... التى تنادى بأن الإسلام لم ينتشر الا بحد السيف وان النبى صلى الله عليه وسلم واصحابه سلكوا مسلك الإكراه وان الفتح الاسلامى فتح قهر وبطش لا فتح قناعة وفكر

النظرية الثانية ......... التى تهتف بأن الاسلام دين سلام ومحبة لا يشرع الجهاد فيه الا لرد العدوان المداهم ولا يحارب اهله الا اذا بودؤا به

** ونجد ان نشر النظرية الاولى وانتظار ردود فعل المسلمين تجاهها وإنكارها لما فيه ظلم واضح فى حق الاسلام ثم يقومون بعد ذلك بطرح النظرية الثانية ليقوم بسطاء المسلمين بالتصفيق لها وتأيدها بالبراهين والادلة مما يؤدى الى نسخ فكرة الجهاد من أذهان المسلمين وأماتت روح الطموح فى نفوسهم وهذا بالضبط ما يريدونه اصحاب تلك النظريات والمغالطات

إذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لاصحابه بالهجرة الى المدينة

بعد بيعة العقبة الثانية انشرح صدر الرسول صلى الله عليه وسلم فقد جعل الله له منعه وقوما أهل حرب وعدة ونجدة وجعل البلاء يشتد على المسلمين من المشركين لما يعلمونه من امر خروجهم الى المدينة فضيقوا على الصحابة ونالوا ما لم يكونوا ينالون من الشتم والاذى فشكا اصحاب النبى اليه ذلك واستأذنوه فى الهجرة فسمح لهم فجعلوا يتجهزون ويتوافقون ويخرجون ويخفون ذلك
وتوالى قدوم المهاجرين الى المدينة فنزلوا على الانصار ( اهل المدينة وسموا الانصار لنصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ) فى دورهم فآووهم ونصروهم وواسوهم
هاجر جميع المسلمين متخفيين الا ما كان من امر عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد تقلد سيفه وتنكب قوسه ومضى الى الكعبة والملأ من قريش بفنائها فطاف بالبيت سبعا متمكنا مطمئنا ثم اتى المقام فصلى ثم مضى الى القوم وقال لهم )من اراد ان تثكله امه او يوتم ولده او يرمل زوجته فليلاقينى وراء هذا الوادى فإنى مهاجر ) فلم يتبعه احد من قريش وخرج فى حمايته قوم من المستضعفين

تتابع المسلمون فى الهجرة الى المدينة حتى لم يبقى بمكة الا رسول الله صلى الله عليه وسلم وابو بكر وعلى ومعذب محبوس ومريض وضعيف عن الخروج

العبر والعظات :

1- كانت فتنة المسلمين من اصحاب النبى صلى الله عليه وسلم فى مكة فتنة الايذاء والتعذيب وما يرونه من المشركين من ألوان السخرية والاستهزاء فلما اذن لهم الرسول بالهجرة اصبحت فتنتهم فى ترك وطنهم وأموالهم ودورهم وأمتعتهم . وهذا هو المثل الصحيح للمسلم الذى اخلص الدين لله لا يبالى بالوطن ولا بالمال فى سبيل ان يسلم له دينه

2- اما اهل المدينة الذين أووا المهاجرين فى بيوتهم وواسوهم ونصروهم فقد قدموا المثل الصادق للاخوة فى الإسلام والمحبة فى الله عزوجل وان اخوة الدين اقوى من اخوة النسب وحدها وقد كان الميراث فى صدر الاسلام على أساس وشيجة الدين وأخوته والهجرة فى سبيله

3- وجوب الهجرة من دار الحرب الى دار الاسلام ودار الحرب هى كل مكان لا يتسنى للمسلم فيه اقامة الشعائر الدينية من صلاة وصيام وجماعة وأذان وغيرها من احكامه الظاهرة

4- وجوب نصرة المسلمين بعضهم لبعض مهما اختلفت ديارهم وبلادهم ما دام ذلك ممكنا ووجوب النصرة لهم بالبدن ان استدعت الحاجة ومن لم يفعل ذلك فقد باء بإثم كبير. كما تجب موالاة المسلمين بعضهم لبعض ولا يجوز ان يشيع شئ من الولاية او التناصر او التأخى بين المسلمين وغيرهم

هجرته صلى الله عليه وسلم والدروس المستفاده منها :

عندما تتابع هجرة المسلمين الى المدينة المنورة ذهب ابو بكر رضى الله عنه صلى الله عليه سلم يستأذنه فى الهجرة فأخره عليه الصلاة والسلام وقال له لعل الله يجعل لك صاحبا . فحبس ابو بكر نفسه ليصحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده واخذ يتعهدهما بالرعاية اربعة اشهر

فى هذه الاثناء عندما رأت قريش ان النبى صلى الله عليه وسلم صار له شيعة واصحاب من غير بلدهم خافوا خروج الرسول اليهم وان يكون اجمع لحربهم لذلك اجتمعوا فى دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون واجتمع رأيهم على ان يأخذوا من كل قبيلة فتى شابا جلدا ويعطى كل واحد منهم سيفا صارما فيعمدوا الى الرسول صلى الله عليه وسلم فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ويتفرق دمه بين القبائل

فجاء جبريل عليه السلام الى النبى يأمره بالهجرة وينهاه ان ينام فى مضجعه تلك الليلة . فقام عليه الصلاة والسلام الى دار ابى بكر واخبره انه اذن له بالهجرة فقال ابو بكر خذ احدى راحلتى فقال عليه الصلاة والسلام : بالثمن ثم انطلق الى على بن ابى طالب رضى الله عنه فأمره ان يتخلف بعده بمكة لكى يؤدى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الودائع التى كانت عنده للناس التى اودعوها عنده لامانته

انطلق الرسول عليه الصلاة والسلام ومعه ابو بكر وقد احتمل ابو بكر ما لديه من مال ولم يترك شئ لاهله وذهبا الى غار ثور . وقد امر ابو بكر ابنه عبد الله ان يستمع اخبار الناس وما يقولون وينقلها لهم فى الغار وامر مولاه عامر بن فهي ران يرعى غنمه نهارا ليمسح اقدام عبد الله حتى لايعرف لهما اثر . وكانت اسماء بنت ابو بكر تذهب اليهما بالطعام كل مساء
وفى تلك الليلة التى قرر فيها المشركون قتل الرسول صلى الله عليه وسلم اجتمعوا ببابه يتربصونه ولكنه عليه الصلاة والسلام خرج من بينهم وقد انامهم الله بعد ان ترك عليا رضى الله عنه فى مكانه نائما فى فراشه

وكانت الهجرة بعد مضى ثلاثة عشر سنة من البعثة واقام فى الغار ثلاثة ايام .

بعد ان علمت قريش بخروج النبى صلى الله عليه وسلم انتشرت فى طريق المدينة يفتشون عنه حتى وصلوا الى غار ثور فخاف ابو بكر فقال له رسول الله ( يا ابا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما ؟) فأعمى الله ابصار المشركين عنهم . وبعد ان هدأ البحث خرج الرسول صلى الله عليه وسلم وابو بكر وجاءهم عبد الله بن ارقط وهو رجل مشرك استأجراه ليدلهما على الطرق الخفيه الى المدينة فسارا متبعين طريق الساحل

وقد رصدت قريش مكافأة لمن يأتيها بخبر النبى عليه الصلاة والسلام وذات يوم وجماعة من بنى مدلج فى مجلس لهم وبينهم سراقة بن جعشم اقبل رجل وقال رأيت انفا اسودة بالساحل اراهما محمدا واصحابه . فقام سراقة وقال بل رأيت فلانا وفلانا وانطلق هو بإتجاههم طمعا فى المكافأة له وحده وعندما دنا من الركب تعثرت فرسه فخر عنها ثم ركبها مرة اخرى وسار حتى قرب وسمع الرسول عليه الصلاة والسلام وهو يقرأ القرأن وابو بكر يكثر الالتفات والحركة رغبة فى حماية الرسول عليه الصلاة والسلام فلما اقترب تعثرت فرسه مرة اخرى وساخت قائمتاها فى الارض فعلم سراقة انه ممنوع عن رسول الله ودخلع رعب عظيم فناداهما بالامان . فتوقف عليه الصلاة والسلام ومن معه حتى وصل سراقة اليهم فاعتذر له وسأله ان يستغفر له وعرض عليهم الزاد والمتاع فقالا له لا حاجة لنا ولكن عم عنا الخبر فقال : كفيتم وعاد ادراجه الى مكة وهو يصرف انظار الناس عن الرسول ومن معه

قدوم قباء

وصل الرسول صلى الله عليه وسلم قباء فاستقبله من فيها واقام فيها بضعة ايام حيث ادركه فيها على بن ابى طالب رضى الله عنه بعد ان ادى عنه الودائع الى اصحابها . وأسس فيها مسجد قباء الذى وصفه الله تعالى انه مسجد أسس على التقوى ثم واصل سيره الى المدينة فدخلها يوم 12ربيع الاول فالتف حوله الانصار كل يمسك زمام راحلته يرجوا ان ينزل صلى الله عليه وسلم عنده فقال لهم : دعوها انها مأمورة فظلت تسير فى سكك المدينة حتى وصلت الى مربد غلامين يتيمين من بنى النجار امام دار أبى أيوب الانصارى فقال عليه الصلاة والسلام : ههنا المنزل ان شاء الله وجاء ابو ايوب فاحتمل الرحل الى بيته

الدروس والعبر المستفادة :

1- استبقاؤه صلى الله عليه وسلم لابى بكر رضى الله دون غيره من الصحابى كى يكون رفيقه فى هذه الرحلة مما يدل على مدى حبه له وانه اقرب اصحابه اليه واولاهم بالخلافة بعده . وفى المقابل ترى ان ابو بكر عنه كان على مستوى هذه الميزة التى اكرمه الله بها وانه ضرب مثال للصاحب الصادق المضحى بروحه وبكل ما يملك من اجل رسول الله صلى الله عليه وسلم

2- اذا ما حاول احد ان يقارن بين هجرته صلى الله عليه وسلم وبين هجرة عمر بن الخطاب او اى مسلم اخر غير رسول الله يعد تصرفه تصرفا شخصيا له ان يتخير من الطرق والوسائل ما يحلو له وما يتفق مع قوة جرأته وايمانه بالله تعالى اما رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مشرع اى ان جميع تصرفاته المتعلقة بالدين تعتبر تشريعا لنا لذلك كانت سنته صلى الله عليه وسلم التى هى المصدر الثانى من مصادر التشريع مجموع اقوله وافعاله وصفاته وتقريراته فلو انه فعل كما فعل عمر لحسب الناس ان هذا هو الواجب وانه لايجوز اخذ الحيطة والحذر لذلك استعمل الرسول صلى الله عليه وسلم كل الاساليب والوسائل المادية التى يهتدى اليها العقل البشرى فى مثل هذا العمل

3- فى تخلف على رضى الله عنه عن النبى عليه الصلاة والسلام لاداء الودائع التى كانت عنده الى اصحابها دلالة باهرة على التناقض العجيب لدى المشركون فكيف يكذبونه ويرونه ساحرا او مخادعا وهم لم يجدوا فى من حولهم من هو خير منه امانه وصدقا فكانوا لا يضعون حوائجهم واموالهم التى يخافون عليها الا عنده مما يدل على ان كفرهم ليس بسبب شكهم فى صدقه وانما بسبب تكبرهم واستعلائهم على الحق وخوفا على زعامتهم وطغيانهم من اتباعه

4- ما كان يبذله عبد الله بن ابى بكر رضى الله عنهما ذهابا وايابا بين الغار ومكة وما فعلته اسماء من نقل الطعام اليهم فى الغار واشتراكها فى اعداد العدة لتلك الرحلة صورة ما يجب ان يكون عليه الشاب المسلم ذكورا واناثا فى سبيل الله عزوجل وان يستنفذ طاقاته كلها سعيا فى سبيل الله والا ينطوى على نفسه مقتصرا على عبادته

5- ما حدث لسراقة وفرسه معجزة اخرى من معجزاته صلى الله عليه وسلم

6- ابرز المعجزات فى قصة الهجرة خروجه صلى الله عليه وسلم من بيته وقد احاطه به المشركون فناموا ولم يروه او يحسوا به ولقد كانت هذه المعجزة بمثابة الاعلان لهؤلاء المشركين وغيرهم فى كل عصر ووقت بأن ما قد يلاقيه الرسول وصحبه من الوان الاضطهاد والعذاب على ايديهم لا يعنى ان الله قد تخلى عنهم وان النصر قد ابتعد عن متناولهم وانما نصر الله قريب وان وسائل هذا النصر توشك ان تتحقق بين لحظة واخرى

7- الصورة التى استقبلت بها المدينة المنورة رسول الله صلى الله عليه وسلم تدل على مدى المحبة الشديدة التى كانت تفيض بها افئدة الانصار رجالا ونساءا واطفالا وكذلك الصورة التى رأيناها فى مقامه عند ابى ايوب الانصارى فى منزله وتبرك ابو ايوب وزوجته بأثار اصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم فى قصعة الطعام ( وهذا يدل على ان التبرك بأثار النبى صلى الله عليه وسلم امر مشروع قد أقره )

*** صور تبرك الصحابة بالرسول واثره .....

- استباق الصحابه رضوان الله عليهم الى فضل وضوئه عليه الصلاة والسلام

- احتفاظ ام سلمة ام المؤمنين بشعيرات من شعر النبى عليه الصلاة والسلام فى قارورة فإذا مرض احد من الصحابة وضعت الشعيرات فى الماء ثم اخذوا الماء يشربونه توسلا للاستشفاء والتبرك به .

أسس المجتمع الجديد

الأساس الاول ........( بناء المسجد )

عندما دخل النبى صلى الله عليه وسلم الى المدينة سارت ناقته حتى بركت فى موضع كان لغلامين يتيمين من الانصار وكان اسعد بن زرارة قد اتخذه مصلى قبل هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم الى المدينة وكان يصلى بأصحابه فيه . فأمر الرسول عليه الصلاة والسلام ان يبنى فى ذلك الموضع مسجدا وسأل اليتيمين ان يبيعاه له وكانا فى كفالة اسعد بن زرارة فقالا : بل نهبه لك يا رسول الله فأبى عليه الصلاة والسلام حتى ابتاعه منهما بعشرة دنانير

وكان يوجد فى تلك الارض شجر الغرقد ونخل وقبور قديمة لبعض المشركين فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالقبور فنبشت وبالنخيل والشجر فقطعت وصفت فى قبلة المسجد

( وصف المسجد )... طوله مما يلى القبلة الى مؤخره مئة ذراع وفى الجانبين مثل ذلك او دونه وتم بناؤه بالطوب اللبن وجعلت قبلته الى بيت المقدس وجعل عمده الجذوع وسقفه بالجريد وأرضه بقيت مفروشة بالرمال والحصباء

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يباشر البناء مع اصحابه ويحمل الحجارة بنفسه وكان يقول ( اللهم لا خير الا خير الاخرة فانصر الانصار والمهاجرة )

ظل المسجد على هذا الشكل دون زيادة او نقص مدة خلافة ابى بكر رضى الله عنه ثم زاد فيه عمر بعض التحسين ولكنه بناه على بنائه فى عهد النبى صلى الله عليه وسلم بالطوب اللبن والجريد واعاد عمده خشبا ثم غيره عثمان فزاد فيه زياده كبيرة وبنى جداره بالحجارة المنقوشة والجص رضى الله عنهم اجمعين

مكانة المسجد فى الاسلام وبيان حاجة الامة للمساجد واثرها فى بناء المجتمع الاسلامى

لا عجب ان اقامة المسجد اول واهم ركيزة فى بناء المجتمع الاسلامى حيث ان المجتمع المسلم يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الاسلام وآدابه وهذا ينبع من روح المسجد ووحيه

من اداب الاسلام شيوع أواصر الاخوة والمحبة بين المسلمين وهذا لايتم الا فى المسجد فإن لم يتلاقى المسلمون يوميا وعلى مرات متعددة فى بيت من بيوت الله وقد تساقطت ما بينهم من فوارق الجاه والمال لا يمكن لروح التآلف والتأخى ان تؤلف بينهم

وقوفهم كل يوم صفا واحدا بين يدى الله عزوجل على صعيد مشترك من العبودية له وتعلق قلوبهم بربهم سيشيع روح المساواة والعدل بينهم فى مختلف شؤونهم وأحوالهم

ان لم تقم فى انحاء المجتمع مساجد يجتمع فيها المسلمون على تعلم حكم الله وشريعته ليتمسكوا بها عن معرفة وعلم فإن وحدتهم تؤول الى شتات وسرعان ما تفرقهم عن بعضهم الشهوات والأهواء

أراء الفقهاء فى التعامل مع من لم يبلغ سن الرشد

اختلف الفقهاء فى حكم التعامل مع من لم يبلغ سن الرشد

1- الحنفية ..... استدلوا بهذا الحديث على صحة تصرف غير البالغ حيث ان النبى صلى الله عليه وسلم اشترى الربد من الغلامين اليتيمين بعد ان ساومهما ولو لم يصح تصرفهما لما اشترى منهما

2- الجمهور ..... ذهبوا الى عدم صحة تصرف غير البالغ سن الرشد واستدلوا بقوله تعالى ( ولا تقربوا مال اليتيم الا بالتي هى أحسن حتى يبلغ اشده ) وردوا على الحديث بنقتطين :

أ‌- انه جاء فى رواية ابن عيين هان النبى صلى الله عليه وسلم كلم عمهما اللذين كانا فى حجره وكفالته وابتاعه منهما بواسطته ( وهنا لاحجة فيما ذهب الى الحنفية )

ب‌- انه عليه الصلاة والسلام انما اشترى الارض منهما بوصف كونه وليا عاما لجميع المسلمين ولا بوصفه فردا منهم

سن الرشد عند الحنفية 25 سنة اما عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ( فلا يتم بعد حلم اى بلوغ )

جواز نبش القبور الدارسة واتخاذ موضعها مسجدا

ذكر الامام النووي ان هذا الحديث يدل على جواز نبش القبور الدارسة (القديمة ) وجواز الصلاة فى تلك الأرض واتخاذها مسجدا اذا أزيل ترابها وطيبت أرضها

جواز بيع الارض التى دفن فيها الموتى ودرست وانها باقيه على ملك صاحبها وورثته مالم توقف ( هذا عند الشافعية اما عند الحنفية وغيرهم اذا اقتضت المصلحة للنبش والنووي يرى انه لايجوز تحويلها الى مسجد أو الى شئ اخر غير ما وقفت له )

حكم تشيد المساجد ونقشها وزخرفتها :

التشيد : هو اقامة عمارة المسجد بالحجارة وما شابهها مما يزيد من قوة بنائه ومتانة سقفه واركانه وقد اجازه العلماء واستحسنه بدليل ما فعله عمر و عثمان رضى الله عنهما وعدم فعله عليه الصلاة والسلام لذلك لا يدل على المنع والمخالفة . واستدل العلماء بقوله تعالى ( انما يعمر مساجد الله من امن بالله واليوم الاخر ) والعمارة تكون بالتشييد وتقوية البناء والعناية به

النقش والزخرفه : هو ما جاوز اصل البناء فى شتى انواع الزينه وقد اجمع العلماء على كراهتهما واتفق من قال بالحرمة ومن قال بالكراهه انه يحرم صرف المال الموقوف لعمارة المساجد على شئ من الزخرفة والنقش اما ان فعله البانى بنفسه وماله فيكره لانه يشغل قلب المصلين عن الخشوع والتدبير وشغلها بمظاهر الدنيا والمقصود من دخول المسجد الهرب من التصورات الدنيوية وتفريغ البال من زينتها ومغرياتها

** حكم كتابة ايه من القرأن فى قبلة المسجد وهل هى داخلة فى النقش الممنوع ام لا :

الزركشى : يقول فى كتابه إعلام الساجد يكره ان يكتب فى قبلة المسجد ايه من القرأن

مالك : قال جوزه البعض لما روى من فعل عثمان ذلك بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو ينكر ذلك عليه

.... من أسوء نتائج هذا البزخ والترف فى زخرفة المساجد ان الفقراء لم يعودوا يستطيعون ان يتهربوا من مظاهر الإغراء الدنيوي الى اى جهه . لقد كان فى المساجد ما يعزى الفقير بفقره ويخرجه من جو الدنيا وزخرفتها الى الاخرة وفضلها فأصبحوا يجدون حتى فى مظهر هذه المساجد ما يذكرهم بزخارف الدنيا التى حرموها ويشعرون بنكد الفقر

[b]الاساس الثانى .....( الاخوة بين المسلمين )

بعد بناء المسجد اخى الرسول صلى الله عليه وسلم بين اصحابه من المهاجرين والانصار على الحق والمساواه وعلى ان يتوارثوا بينهم حتى الممات بحيث يكون اثر الاخوة الاسلامية فى ذلك اقوى من اثر قرابة الرحم

ظلت حقوق هذا الاخاء مقدمة على حقوق القرابة الى موقعة بدر الكبرى حيث نزل قول الله تعالى { وألو الأرحام بعضهم اولى ببعض فى كتاب الله ان الله بكل شئ عليم } فنسخت هذه الايه ما كان قبلها وانقطع اثر المؤاخاة الإسلامية فى الميراث ورجع كل انسان الى نسبه وذوى رحمه واصبح المؤمنون كلهم اخوة

*** عبر ودلالات :--

1- ان اى دولة لا يمكن ان تنهض وتقوم الا على اساس من وحدة الامة وتساندها والذى يتم بعامل التأخى والمحبة المتبادلة والذى يؤدى الى اجتماعها حول مبدأ واحد حيث ان التاخى بين شخصين يؤمن كل منهما بعقيدة او فكرة مخالفة للآخر خرافة ووهم خصوصا اذا كانت تلك الفكرة او العقيدة تحمل صاحبها على سلوك معين فى الحياة العملية

من اجل ذلك جعل الرسول صلى الله عليه وسلم اساس الاخوة التى جمع عليها افئدة اصحابه هى العقيدة الاسلامية التى جاءهم بها من عند الله تعالى والتى تضع الناس كلهم فى مصاف العبودية الخالصة لله تعالى دون اى فروق الا التقوى والعمل الصالح

2- اى مجتمع يختلف عن مجموعة من الناس منتثرة متفككة بشئ واحد وهو قيام مبدأ التعاون والتناصر بين اشخاص هذا المجتمع فى كل نواحى الحياة ومقوماتها . وان كان هذا التعاون قائم على ميزان العدل والمساواة فهذا هو المجتمع العادل السليم وان كان قائما على الحيف والظلم فهو مجتمع ظالم منحرف
من اجل ذلك اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم من حقيقة التأخى الذى اقامه بين المهاجرين والانصار أساسا لمبادئ العدالة الاجتماعية ولقد تدرجت مبادئ هذه العدالة فيما بعد بشكل احكام وقوانين شرعية ملزمة ولولا هذه الاخوة العظيمة لما كان لتلك المبادئ اى اثر تطبيقى وايجابى فى شد أزر المجتمع الاسلامى ودعم كيانه

3- المعنى الذى صاحب شعار التأخى حيث ان مبدأ التأخى لم يكن مجرد كلمة او شعار اجراه على ألسنتهم وانما كان حقيقه عملية تتصل بواقع الحياة وبكل اوجه العلاقات القائمة بين الانصار والمهاجرين واكبر مثال على هذا التأخى ما فعله سعد بن الربيع مع اخوه المهاجر عبد الرحمن بن عوف حيث عرض عليه نصف ماله وان يترك له زوجه من زوجتيه ليتزوجها ولكن عبد الرحمن بن عوف شكره وطلب منه ان يدله على سوق المدينة ليتاجر ويشتغل

**** وتم نسخ التوارث على اساس الاخوة فيما بعد حيث ان نظام التوارث والميراث استقر اخيرا واستقر على ان الاسلام هو الاساس حيث ان لا توارث بين ذوى دينين مختلفين وان كانوا ذوى رحم وقربى وحدث هذا بعدما استقر امر المهاجرين فى المدينة وتمكن الاسلام فيها واصبح لا يخشى على هذا النظام من التفكك والتميع

** هذا التأخى بين المهاجرين والانصار سبقه مؤاخاه اخرى اقامها النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين فى مكة وهذا يؤكد ان مناط الاخوة وأساسها هو رابطة الاسلام
/b]

الاساس الثالث ... ( كتابة وثيقة بين المسلمين وغيرهم )

عندما استقر امر النبى عليه الصلاة والسلام فى المدينة واجتمع له اسلام عامة اهل المدينة من العرب ولم يبق دار من دور الانصار الا اسلم اهلها عدا افراد من قبيلة الأوس كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابا بين المهاجرين والانصار وادع فيه اليهود وعاهدهم واقرهم على دينهم واموالهم وشرط لهم واشترط عليهم

**** بنود الوثيقة : 1

1- المسلمون من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم امة واحدة من دون الناس

2- المسلمون جميعا على اختلاف قبائلهم يتعاقلون بينهم ويفدون أسراهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين

3- المؤمنون لا يتركون مثقلا بالديون كثير العيال حتى يعينوه ويعطوه

4- ان المؤمنين المتقين على من بغى منهم او ابتغى ظلم او اثم او عدوان بين المؤمنين وان ايديهم عليه جميعا ولو كان ولد احدهم

5- لا يقتل مؤمن مؤمنا فى كافر ولا ينصر كافر على مؤمن

6- لا يسالم مؤمن دون مؤمن فى قتال فى سبيل الله الا على سواء وعدل بينهم

7- ذمة الله واحدة ويجير عليهم أدناهم والمؤمنون بعضهم موالى بعض دون الناس

8- لا يحل لمؤمن ان ينصر محدثا ا وان يؤويه وان من نصره أو آواه فإن عليه لعنه الله وغضبه يوم القيامة

9- اليهود ينفقون مع اليهود ما داموا محاربين

10- لليهود دينهم وللمسلمين دينهم الا من ظلم واثم فإنه لا يهلك الا نفسه واهل بيته

11- ان على اليهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم وان بينهم النصر على من حارب اهل هذه الصحيفة

12- اى خلاف بين اهل هذه الصحيفة مرده الى الله عزوجل والى محمد رسول الله

13- من خرج من المدينة امن ومن قعد امن الا من ظلم واثم

14- ان الله على اصدق ما فى الصحيفة وابره وان الله جار لمن بر واتقى

العبر والعظات المستفادة من الوثيقة :

1- الاصطلاح المناسب لهذه الوثيقة هى كلمة دستور حيث انها كانت بمثابة اعلان دستور شمل جميع ما يمكن ان يعالجه اى دستور حديث بوضع الخطوط الكليه لنظام الدولة فى الداخل والخارج اى فيما يتعلق بعلاقة افراد الدولة بعضهم مع بعض وفيما يتعلق بعلاقة الدولة مع الاخرين

*** وهذا دليل على ان المجتمع الاسلامى قام منذ اول نشأته على اسس دستورية تامة وان الدولة الإسلامية قامت على اتم ما قد تحتاجه الدولة من المقومات الدستورية والادارية

** ونجد ان هذا التنظيم الدستوري الذى أوجده رسول الله صلى الله عليه وسلم هو فى الوقت نفسه جزء من الاحكام الشرعية نفسها وهذا يسقط دعاوى الذين يزعمون ان الاسلام ليس الا دينا قوامه ما بين الانسان وربه وليس له من مقومات الدولة والتنظيم الدستورى شئ والهدف من ذلك الا يصبح للاسلام شأن يتغلب به على المجتمعات المنحرفة

2- هذه الوثيقة اكبر دلالة على مدى العدالة التى اتسمت بها معاملة النبى صلى الله عليه وسلم لليهود والتى كان من الممكن ان تؤتى ثمارها لولا غلب على اليهود حب المكر والخديعة والغدر فكان المسلمون بذلك فى حل مما التزموا به تجاههم

3- دلت هذه الوثيقة على احكام هامة فى الشريعة الاسلامية نذكر منها :-

أ‌- الاسلام وحده القادر على تأليف وحده المسلمين وإزالة ما بينهم من فوارق ويجعلهم امة واحدة ( فى البند الاول )

ب‌- من اهم سمات المجتمع الاسلامى ظهور معنى التكافل والتضامن بين المسلمين ( فى البند الثانى والثالث )

ج- مدى الدقة فى المساواة بين المسلمين وانها ركن من الأركان الشرعية الهامة للمجتمع الاسلامى وان جواره محترم فمن أدخل فى جواره احد فليس لحاكم او محكوم ان ينتهك حرمة هذا الجوار والمرأة لا تختلف عن الرجل فى ذلك ( فى البند السابع )
• شروط الايجارة ( الا تضر بالمسلمين – تكون لعدد محصور – لمده لا تزيد على 4 اشهر )

د- الحكم العدل الذى يهرع اليه المسلمين فى خصوماتهم وخلافاتهم هو شريعة الله تعالى وحكمه ومهما بحثوا عن حلول لمشكلاتهم فى غير هذا المصدر فهم آثمون معرضون انفسهم للشقاء فى الدنيا وعذاب الله تعالى فى الاخرة ( البند الثانى عشر )

** ومن تطبيق هذه الوثيقة والاهتداء بما فيها والتمسك بأحكامها قامت تلك الدولة على امتن ركن واقوى اساس ثم انتشرت قويه راسخة فى شرق العالم وغربه تقدم للناس أروع ما عرفته الانسانية من مظاهر الحضارة والمدنية الصحيحة

مرحلة الحرب الدفاعية

الغزوات التى تم وضعها تحت هذا العنوان هى غزوات دفاعية فعلا لانها كانت رد على مؤامرة او عدوان بدأ به المشركون وهى تمثل مرحلة من مراحل الدعوة الاسلامية فى عصره صلى الله عليه وسلم وليس تعبيرا عن الحكم الذى استقر عليه اساس الجهاد فى الاسلام

اول غزوة غزاها رسول الله

بعد مرور اثنى عشر شهرا على هجرته صلى الله عليه وسلم وفى شهر صفر خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم لاول مرة بقصد الغزو وكانت غزوة ( ودان ) يريد قريشا وبنى حمزة لكنه عليه الصلاة والسلام كفى القتال فقد وادعه بنو حمزة وعاد عليه الصلاة والسلام وصحبة الى المدينة دون قتال

غزوة بدر الكبرى

سببها : ان النبى صلى الله عليه وسلم سمع بعير تجارية لقريش قادمة من الشام بإشراف ابى سفيان بن حرب فندب المسلمين اليها ليأخذوها لقاء ما تركوا من اموالهم فى مكه عند هجرتهم واستولت عليه قريش

وعلم ابو سفيان بأمر المسلمين وعزمهم الخروج اليه فأرسل ضمضم بن عمرو الغفارى الى مكة ليخبر قريشا فتجهزو للغزو ولم يتخلف احد من اشراف قريش وكانوا قريبا من الف مقاتل

وخرج عليه الصلاة والسلام مع اصحابه وكان ذلك فى شهر رمضان وكانوا فيما يروى ثلاث مئه واربعة عشر رجلا وسبعين ابلا يتعاقبون عليها وهم لا يعلمون من امر قريش وخروجهم شيئا . اما ابو سفيان فقد سلك طريق الساحل وجعل ماء بدر عن يساره واخذ يسرع حتى انجى تجارته وعيره

عندما بلغ امر قريش للرسول صلى الله عليه وسلم استشار اصحابه فتكلم المهاجرون كلاما حسنا لكنه ظل ينظر للقوم ويقول اشيروا على ايها الناس عندها قال له سعد بن معاذ : والله لكأنك تريدنا نحن يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : اجل فقال سعد : لقد امنا بك وصدقناك وشهدنا ان ما جئت به هو الحق واعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة فامض لما اردت فنحن معك فوالذى بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك
فسر الرسول صلى الله عليه وسلم بقول سعد وقال : سيروا وابشروا فإن الله قد وعدنى إحدى الطائفتين والله لكأنى انظر الى مصارع القوم

وقد ارسل ابو سفيان الى قريش انه قد احرز العير ونجا بها ولكن ابا جهل اصر على المضى الى الغزو ةحتى تسمع به العرب فتهابه . ومضوا حتى نزلوا بالعدوة القصوى من الوادى ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ادنى ماء من بدر

فقال الحباب بن المنذر : يا رسول الله أرأيت هذا منزلا انزلكه الله ام هو الرأى والحرب والمكيده فقال عليه الصلاة والسلام : بل هو الحرب والرأى والمكيده فقال الحباب : هذا ليس بمنزل فأنهض الناس حتى تأتى ادنى ماء من القوم فننزله ثم نغور باقى الابار ثم نقاتل القوم فنشرب ولا يشربون . فقام عليه الصلاة والسلام وتحول الى المكان الذى اشار به الحباب رضى الله عنه

ونجد ان الرسول صلى الله عليه وسلم كان يشير ويقول هذا مصرع فلان ومصرع فلان ( من المشركين ) فما تزحزح احدهم فى مقتله عن الموضع الذى اشار اليه عليه الصلاة والسلام
وفى ليلية الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان راح رسول الله يجار الى الله تعالى بالدعاء ويتضرع اليه وهو باسط كفيه الى السماء حتى سقط عنه عباءته حتى اشفق عليه ابو بكر رضى الله عنه فالتزمه من ورائه وقال له : يارسول الله ابشر فوالذى نفسى بيده لينجزن الله لك ما وعدك

وفى صبيحة يوم الجمعة لسنتين خلتا من الهجرة بدأ القتال واخذ النبى صلى الله عليه وسلم حفنه من الحصباء فاستقبل بها قريشا ثم نفحهم بها فلم يبق فيهم رجلا إلا وامتلأت عيناه منها وأيد الله المسلمين بالملائكة يقاتلون الى جانبهم

وانتصر المسلمون وقتل فى تلك الموقعة سبعون من صناديد قريش واسر سبعون واستشهد من المسلمين اربعة عشر رجلا

والقيت جثث المشركين فى قليب بدر ووقف الرسول صلى الله عليه وسلم على ضفة البئر يناديهم بأسمائهم واسماء ابائهم يقول لهم ( انا وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا ) فقال عمر : يارسول الله ما تكلم من اجساد لا ارواح لها ؟ فقال عليه الصلاة والسلام والذى نفسى محمد بيده ما انتم بأسمع لما اقول منهم

واستشار النبى صلى الله عليه وسلم اصحابه فى امر الاسرى فاشار ابو بكر رضى الله عنه ان يأخذ منهم فدية من المال تكون قوة للمسلمين ويتركهم عسى الله ان يهديهم اما عمر بن الخطاب رضى الله عنه فقد اشار بقتلهم لانهم ائمة الكفر وصناديده لكن الرسول صلى الله عليه وسلم مال الى رأى ابوبكر لما فيه من الرحمة وحكم به . غير ان الايات نزلت تعاتبه صلى الله عليه وسلم فى ذلك وتؤيد رأى عمر بن الخطاب ( سورة الانفال 8:67)

العبر والعظات المستفادة من غزوة بدر :

1- الدافع الاصلى لخروج المسلمين مع رسول الله عليه الصلاة والسلام لم يكن القتال والحرب وانما قصد الاستيلاء على عير قريش غير ان الله سبحانه وتعالى اراد لعباده غنيمة أكبر ونصرا اعظم وفى هذا دليل امرين :

- ممتلكات الحربيين تعد بالنسبة للمسلمين اموالا غير محترمة فلهم ان يستولوا عليها وللمهاجرين عذرا اخر وهو محاولة التعويض عن ممتلكاتهم التى بقت فى مكة واستولى عليهم المشركون

ب‌- رغم مشروعية هذا القصد فإن الله تعالى اراد لعباده المؤمنين قصدا أرفع وأليق بوظيفتهم التى خلقوا لأجلها وهى الدعوة الى دين الله والجهاد فى سبيل ذلك والتضحية بالروح والمال وهذه التربية الإلهية لنفوس المسلمين تتجلى فى قوله تعالى } وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين انها لكم وتودون ان غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله ان يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين {

2- جلوس النبى صلى الله عليه وسلم الى اصحابه ليشاورهم فى الامر بعد ان أفلت منهم العير وخروج قريش إليهم مدججين بالسلاح الكامل وفى هذا دلالتين :

الدلالة الاولى : إلتزامه صلى الله عليه وسلم بمبدأ التشاور مع اصحابه والتزامه بهذا المبدأ فى كل امر لا نص فيه من كلام الله تعالى وعلى هذا اجمع المسلمون على ان الشورى فى كل مالم يثبت فيه نص ملزم من الكتاب او السنة اساس تشريعى دائم لا يجوز اهماله

الدلالة الثانية : ان مشروعية فرض الجهاد من حيث الاصل حكم تبليغى لا يخضع لأى نسخ او تبديل وكذلك مشروعية الصلح والمعاهدات ثابته لا يجوز إبطالها او اجتثاثها من احكام الشريعة الاسلامية لكن صور التطبيق تختلف بإختلاف الظروف والزمان والمكان وحالة المسلمين وحالة اعدائهم والذى له السلطة فى الحكم فى ذلك هو بصيرة الامام المتدين العادل وسياسة الحاكم المتبحر فى احكام الدين مع الاخلاص فى الدين والتجرد من اى مقصد مع الاعتماد على مشاورة المسلمين والاستفادة من خبراتهم وأرائهم المختلفة

** فقد يجنح الحاكم الى السلم إذا رأى ان الظروف غير مواتية وليست فى صالح الحرب ومجابهة الاعداء بالقوة وهو فى ذلك لا يخالف نصا من نصوص الشريعة ولكنه يتريث حتى تأتى الظروف المناسبة والملائمة للقتال والجهاد
- اما إذا داهم العدو المسلمين فى عقر دارهم فإن عليهم دفعه بالقوة مهما كانت الوسيلة والظروف
- الشورى مشروعة ولكنها ليست ملزمة للحاكم وله اختيار واصدار القرار المناسب من وجهة نظره

3- نرى ان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يطمئن وتطيب نفسه إلا عندما تكلم سعد بن معاذ وهذا يدل على ان النبى صلى الله عليه وسلم كان يريد ان يعرف رأى الانصار انفسهم فى ذلك الامر وهل سيقتصر رأيهم على ما ورد فى المعاهده التى على اساسها هاجر الرسول صلى الله عليه وسلم إليهم والتى تنص على انهم يقاتلوا ويدافعوا عنه داخل المدينة . ام ستتغلب عليهم مشاعرهم الاسلامية ومعاهدتهم الكبرى مع الله تعالى . والمتأمل لجواب سعد بن معاذ يعلم ان مبايعة الانصار كانت مع الله تعالى مبايعة يلتزمون فيها بالدفاع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ودفاعا عن دين الله تعالى وشريعته وانهم وقعوا تحت صك عظيم تضمنه قوله تعالى } إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون فى سبيل الله فيقتلون ويقتلون { التوبة 111

4- يجوز للإمام ان يستعين فى الجهاد وغيره بالعيون والمراقبين ليكتشف خطط الاعداء واحوالهم وليتبين ما هم عليه من قوة فى العدة والعدد بشرط الا تنطوى هذه الوسيلة على الاضرار بمصلحة اهم من مصلحة الاطلاع حال العدو . ونلاحظ استخدام النبى صلى الله عليه وسلم لهذه الوسيلة فى غزوة بدر عندما نزل عليه الصلاة والسلام قريبا من بدر ركب هو ورجل من اصحابه ( يقال ابو بكر رضى الله عنه ) حتى وقف على شيخ من العرب فسأله عليه الصلاة والسلام عن قريش وعن محمد واصحابه ومابلغه عنهم . فقال الشيخ ( لا اخبركما حتى تخبرانى من انتما ) فقال عليه الصلاة والسلام ( إذا اخبرتنا اخبرناك ) فقال ( أذاك بذاك ؟) قالا (نعم ) فأخبره الشيخ بما يعلم من امر المشركين وبما سمعه من امر النبى وأصحابه حتى إذا فرغ من كلامه قال ( فممن انتما ) فقال النبى عليه الصلاة والسلام ( نحن من ماء ) ثم انصرف عنه فأخذ الشيخ يقول : ( ما من ماء ؟ أمن ماء العراق ؟ )

5- يدلنا الحديث الذى دار بين النبى عليه الصلاة والسلام وبين الحباب بن المنذر فى شأن المكان الذى نزل فيه ان تصرفات الرسول عليه الصلاة والسلام ليست كلها تشريع بل انه فى اكثر الاحيان يتصرف على انه بشر من الناس يفكر ويدبر كما يفكر غيره وفى هذه الحاله نحن لسنا ملزمين بإتباعه فى هذه التصرفات بعد التأكد من انها تصرفات بشرية وليست تشريعية

6- اللجوء والتضرع إلى الله تعالى بالدعاء والرجاء وهذا ما فعله عليه الصلاة والسلام حيث وقف باسطا كفيه الى السماء يناشد الله عزوجل أن يؤتيه نصره الذى وعد حتى سقط عنه رداؤه واشفق عليه ابو بكر ومع ذلك كان يطمئن المسلمين ويقول لهم هذا مصرع فلان وهذا مصرع فلان وهذا الأطمئنان تصديق منه عليع الصلاة والسلام لوعد الله له .اما الاستغراق فى الدعاء والتضرع فتلك هى وظيفة العبودية التى خلق من اجلها الانسان وهو ثمن النصر فى كل حال فالنصر من عند الله والله لا يريد منا الا ان نكون عبيدا له بالطبع والاختيار

- وقارن بين دعائه وتضرعه عليه الصلاة والسلام وبين التجبر والطغيان الذى تجلى فى موقف ابى جهل حينما قال ( لن نرجع عن بدر أبدا حتى ننحر الجزر ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان وتسمع بنا العرب وبمسيرتنا وجمعنا فلا يزالون يهابوننا ) ونجد ان نتيجة العبودية والخضوع لله تعالى عزة ومجدا وشامخا خضع لهما جبين الدنيا بأسرها وكانت نتيجة الطغيان والجبروت الزائفين قبرا من الضيعة والهوان أقيم حيث كانوا سيتساقون فيه الخمر

7- انطوت غزوة بدر على معجزة من اعظم معجزات التأييد والنصر للمسلمين حيث أمد الله المسلمين بملائكة يقاتلون معهم وهذا واضح فى قوله تعالى } فاستجاب لكم انى ممدكم بألف من الملائكة مردفين { الانفال 9 ونجد ان تقييد البيان الالهى للملائكة بعدد معين ينطوى على حكم باهرة تقطع السبيل على من يريد ان يفسر الملائكة بالمعنى الذى يروق له وهو مجرد الدعم المعنوى . ونرى ان نزول الملائكة ما هو الا مجرد تطمين لقلوب المسلمين وليس للملائكة اى تأثير ذاتى فى النصر

8- الحياة البرزخية للاموات والتى ظهرت فى وقوف الرسول صلى الله عليه وسلم على قليب بدر يكلم قتلى قريش وهذا دليل على ان للميت حياة روحية خاصة به لا ندرى حقيقتها ومن هنا يأتى عذاب القبر ونعيمه لكنه يخضع لموازين لا تنضبط بعقولنا وادراكاتنا الدينيوية

9- مسألة الاسرى ومشاورة الرسول صلى الله عليه وسلم فى شأنهم وفيها دلالتين

اولا : اجتهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ..... دلتنا هذه الواقعة على ان النبى عليه الصلاة والسلام كان له ان يجتهد وله ان يخطئ فى الاجتهاد ويصيب غير ان الخطأ لا يستمر ولابد من نزول ايه قرأنية تصحح له اجتهاده فإن لم تنزل فهذا دليل على صحة إجتهاده . قد يتوهم البعض ان الخطأ هو الاثم والانحراف مما يتنافى مع العصمة الثابته للانبياء غير ان المقصود بالخطأ هنا عدم مطابقة اجتهاده عليه الصلاة والسلام لما هو الكمال الثابت فى علم الله عزوجل وهو لايتنافى مع عصمته صلى الله عليه وسلم بل هو مثاب من الله تعالى عليه .

** اجتهاده صلى الله عليه وسلم بالنسبة للناس لاصح فيه ولا خطأ ويجب عليهم اتباعه اذا لم ترد أيه تخطأ ه اما اجتهاده اما اجتهاده بالنسبة لله تعالى خاضع لوصفى الصحة والخطأ

ثانيا : غزوة بدر اول تجربة للمسلمين فى التضحية فى سبيل الله ..... كانت هذه اول تجربة للمسلمين وهم ما هم عليه من ضعف وقله ان يقاتلوا فى سبيل الله وكانت كذلك اول تجربة لهم فى رؤية الغنائم والاموال وقد ثبت الله قلوبهم وطمأن نفوسهم وعالجت تجربة رؤية الغنائم والاموال مع الحاجة والفقر بوسائل تربوية دقيقة وظهر هذا فى مشهدين

< المشهد الاول >.. تسابقهم الى الغنائم واختلافهم مع بعض فى كيفية توزرعها حيث لم يكن حكم توزيع الغنائم قد نزل بعد فراحوا يسألون النبى عليه الصلاة والسلام فنزل قوله تعالى } يسألونك عن الانفال قل الانفال لله والرسول { والتى وضحت ان الانفال ليست لاحد بل هى لله ورسوله اما هم فعليهم اصلاح الشقاق الذى وقع بينهم واطاعة الله فى اوامره واجتناب نواهيه فلما اصلحوا ما افسده النزاع نزلت أيات اخرى تقرر كيفية تقسيم الغنائم بين المقاتلين

< المشهد الثانى > .. عندما تشاور النبى صلى الله عليه وسلم مع اصحابه فى شأن الاسرى فقد سكنت نفوسهم الى افتدائهم بالمال والجمع بين الرحمة والرفق بالاسرى لعلهم يؤمنوا والتعويض عما فات المهاجرين من اموالهم التى تركوها فى مكة وهذا ما جعل النبى صلى الله عليه وسلم ان يستكين لهذا الرأى ويؤيده لكن الحكمة الالهية لم ترد للمسلمين ان يجعلوا من النظرة الى المال ميزانا للحكم فى قضاياهم الكبرى ونزلت الايات تعاتب الرسول على اتخاذه هذا القرار وانه ينبغى ان تظل احكامهم متسامية فى علياء لا يطولها شئ من اغراض الدنيا على اختلافها

بنو قينقاع وأول خيانة يهودية للمسلمين

جاءت إمرأة من العرب الى سوق بنى قينقاع لبيع شئ لها فجلست الى صائغ بها فجعلوا يريدونها ان تكشف وجهها فأبت فعمد الصائغ الى طرف ثوبها فعقده الى ظهرها فلما قامت انكشفت سوأتها فضحكوا منها فصاحت فوثب رجل من المسلمين على الصائغ فقتله وكان يهوديا وشدت اليهود على المسلم فقتلوه فأستصرخ اهل المسلم المسلمين على اليهود فغضب المسلمون فوقع الشر بينهم وبين بنى قينقاع وكان هؤلاء أول يهود نقضوا العهد الذى بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان ذلك فى منتصف شوال من السنة الثانية للهجرة

فحاصرهم الرسول صلى الله عليه وسلم مده من الزمن حتى نزلوا على حكمه فقام إليه عبدالله بن ابى بن سلول فقال : ( يا محمد أحسن فى موالى ) فلم يلتفت اليه رسول الله عليه الصلاة والسلام فلم يزل بن سلول يلح عليه حتى غضب عليه الصلاة والسلام ورأوا لوجهه ظللا وقال له : ( هم لك وأمرهم ان يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه بها ) فخرجوا الى أذرعات الشام وهلك اكثرهم فيها

وكان لعباده بن الصامت محالفة مع يهود مثل الذى ل بن سلول فمشى الى رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلا ( إننى أتولى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأبرأ من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم )

فنزل قول الله تعالى فيهما } يا أيها الذين أمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين ’ فترى الذين فى قلوبهم مرض يسارعون فيهم بقولون نخشى أن تصيبنا دائرة ’ فعسى الله أن يأتى بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا فى أنفسهم نادمين {

العبر والعظات المستفادة من غزوة بنى قينقاع

1- ( حجاب المرأة المسلمة ) .... حيث ان الواقعة حدثت نتيجة ارادة اليهود كشف وجه المرأة المسلمة وهناك من يرى ان هذه الواقعة دلالة على ان الحجاب الشرعى للمرأة سابغ للوجه ايضا وإلا لم يكن هناك حاجة فى ان تسير فى الطريق ساترة وجهها ولما وجد اليهود ما يدفعهم الى ما صنعوا حيث انهم ارادوا مغايظة شعورها الدينى الذى كان يبدوا جليا فى مظهرها .
وساند هذا الرأى حديث بن عمر ( لاتنتقب المرأة المحرمة ولا تلبس القفازين ) وهذا النهى فرع عما كانت تفعله المرأة المسلمة من الانتقاب واسدال البرقع على وجهها

** وكذلك وردت احاديث تدل على حرمة نظر الرجل لوجه المرأة منه ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم لعلى رضى الله عنه ( يا على لا تتبع النظرة النظرة فأنما لك الاولى وليست لك الاخرة

** غير ان من ائمة المذاهب الى ان الوجه والكفين من المرأة ليستا بعورة فلا يجب سترهما وان ما سبق من الاحاديث تدل على الندم دون الوجوب
** غير ان الجميع اتفقوا على انه يجوز النظر الى شئ من جسم المرأة بشهوة وعلى انه يجب على المرأة ان تستر وججها إذا عم الفسق وأصبح الذين ينظرون إليها فساقا يتأملونها بنظرات محرمة

2- ( الحقد الدفين للمسلمين ).....هذه الحادثة تدل على الحقد الدفين فى صدور اليهود للمسلمين على ما وجدوه من انتصار المسلمين فى بدر وهو امر لم يكونوا يتوقعونه فضاقت صدورهم ولم يجدوا إلا ان ينفسوا عنها الا بمثل ما اقدموا عليه . ولو ان اليهود احترموا ما بينهم وبين المسلمين من عهود ومواثيق لما وجدوا من المسلمين من يسئ اليهم بكلمة او يزعجهم فى مسكن او مقام ولكنهم أبوا إلا شرا فكان مرد الشر على نفوسهم

3- ( معاملة المنافق فى الاسلام ) ... اظهرت هذه الحادثة وموقف عبد الله بن ابى بن سلول منها نفاقه واصطناعه الاسلام وانه فى اعماق قلبه إنما يضمر شرا بالاسلام واهله غير ان رسول الله صلى الله عليه وسلم عامله مع ذلك كله على انه مسلم ولم يعامله معاملة المشرك أو المرتد أو الكاذب فى إسلامه وأجابه الى ما أصر عليه وألح فى طلبه . وذلك يدل على ان المنافق انما يعامل فى الدنيا من قبل المسلمين على انه مسلم وسبب ذلك ان الاحكام الاسلامية فى مجموعها تتكون من جانبين :

( الجانب الاول )____ جانب يطبق فى الدنيا ويكلف المسلمون بتطبيقه على مجتمعاتهم ويشرف على ذلك رئيس الدولة وهو يقوم على الادلة القضائية المادية بحيث لا يترتب شئ من نتائج الاحكام إلا بموجبها فليس للادلة الوجدانية والقرائن والاستنتاجية اى اثر

( الجانب الثانى )____ جانب يطبق فى الاخرة ويكون امره عائدا الى الله تعالى ويقوم على ما استقر فى القلوب واستكن فى الصدور ومرد القضاء فى ذلك لله تعالى

** والحكمة من مشروعية هذه القاعدة ان تظل العداله بين الناس فى مأمن من التلاعب بها إذ ربما اتخذ بعض الحكام من حجية الادلة الوجدانية والاستنتاجية وحدها ذريعة الى الاضرار ببعض الناس بدون حق

4- ( ولا ية غير المسلم ) ... نجد ان نتيجة هذا الحادث نزول الايات القرأنية التى علقت على موقف كلا من بن سلول وعباده بن الصامت وعلمنا انه لا يجوز لاى مسلم ان يتخذ من غير المسلم وليا له اى صاحب تشيع بينهما مسئولية الولاية والتعاون

- ولا يستثنى من هذا الحكم الا فى حالة واحدة هى إذا ما ألجئ المسلمون الى هذه المولاة بسبب شدة الضعف التى قد تحملهم كرها على ذلك
- وينبغى ان نعلم ان النهى عن مولاة غير المسلمين لا يعنى الحقد عليهم فالمسلم منهى على ان يحقد على احد ويجب التفرقة بين ان يغضب الانسان على احد لله تعالى وان يحقد عليه . حيث ان الاول يكون الغضب على فعل المنكر اما الثانى فهو على الشخص ذاته بصرف النظر عن اعماله وتصرفاته . الغضب على الكافر ما هو الا شفقه عليه حيث ان المؤمن من شأنه ان يحب للناس ما يحبه لنفسه وليس شئ احب لنفس المؤمن من ان يخلعها من عذاب يوم القيامة ويضمن لها السعادة الابدية وهذا لا ينافى مشروعية القسوة فى معاملة الكافرين فكثيرا ما تكون القسوة هى الوسيلة الوحيدة للإصلاح وهى النتيجة التى لابد منها للشفقة والرحمة

** ومن هذا فإن المسلمين دون غيرهم أمة واحدة ولائهم وتأخيهم ينبغى ان يكونا محصورين فيما بينهم اما معاملتهم للناس كلهم تكون قائمة على اساس العدل ورغبة الخير للجميع والدعاء للناس جميعا بالصلاح والرشد